فصل: التّعريف

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


إذخر

التّعريف

1 - الإذخر نبات طيّب الرّائحة‏.‏ الحكم الإجمالي

2 - لا يحلّ قطع شيء من شجر حرم مكّة الّذي نبت دون تدخّل الإنسان، ويستثنى من ذلك الإذخر، فإنّه يجوز قطعه، لاستثناء رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إيّاه للحاجة إليه فيما رواه البخاريّ ومسلم عن ابن عبّاس رضي الله عنهما عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال «‏:‏ حرّم اللّه مكّة فلم تحلّ لأحد قبلي ولا لأحد بعدي، أحلّت لي ساعة من نهار، لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها، ولا ينفّر صيدها ولا تلتقط لقطتها إلاّ لمعرّف، قال العبّاس‏:‏ إلاّ الإذخر لصاغتنا وقبورنا، فقال‏:‏ إلاّ الإذخر»، وفي رواية «لقبورنا وبيوتنا»‏.‏ وإذا جاز قطعه واستعماله فإنّ هذا الاستعمال يشترط ألاّ يكون في التّطيّب‏.‏ وقد ذكر ذلك الفقهاء في الحجّ في باب ما يحظر في الحرم من الصّيد وقطع الشّجر ونحو ذلك‏.‏

إذكار

انظر‏:‏ ذكر‏.‏

أذن

التّعريف

1 - الأذن‏:‏ بضمّ الذّال وسكونها، عضو السّمع، وهو معنًى متّفق عليه بين الفقهاء وأهل اللّغة‏.‏ وإذا كانت الأذن عضو السّمع، فإنّ السّمع هو إدراك الأصوات المسموعة وشتّان ما بينهما‏.‏

الحكم الإجماليّ، ومواطن البحث

2 - الأذن عضو السّمع، وفي الجسد منه اثنتان في العادة‏.‏ ويترتّب على ذلك أحكام هي‏:‏

أ - يطلب الأذان في أذن المولود اليمنى، والإقامة في أذنه اليسرى، ليكون الأذان بما فيه من التّوحيد الخالص أوّل ما يقرع سمعه، وقد ورد الحديث الشّريف بذلك، ويذكر الفقهاء هذا غالباً في الأذان عند كلامهم على المواطن الّتي يسنّ فيها الأذان، وذكره بعضهم في الأضحيّة عند كلامهم على العقيقة‏.‏

ب - يرى الفقهاء عدم إباحة سماع المنكر، ويرون وجوب كفّ السّمع عن سماعه، حتّى إذا مرّ المرء بمكان لا مناص له من المرور فيه، وفيه شيء من هذه المنكرات، وضع أصابعه في آذانه لئلاّ يسمع شيئاً منها‏.‏ كما فعل ابن عمر رضي الله عنه، فقد روى نافع قال‏:‏ إنّ ابن عمر سمع صوت مزمار راع فوضع أصبعيه في أذنيه وعدل راحلته عن الطّريق وهو يقول‏:‏ يا نافع أتسمع‏؟‏ فأقول‏:‏ نعم، فيمضي، حتّى قلت‏:‏ لا، فرفع يده وعدل راحلته إلى الطّريق وقال‏:‏ «رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سمع زمّارة راع فصنع مثل هذا»‏.‏

ج - وإذا كانت الأذن غير السّمع وهي آلته، فإنّ الجناية على الأذن الواحدة توجب القصاص في العمد، ونصف الدّية في الخطأ حتّى ولو بقي السّمع سليماً‏.‏ فإن ذهب السّمع أيضاً مع الأذن بجناية واحدة لم يجب أكثر من نصف الدّية‏.‏ وقد فصّل الفقهاء ذلك في كتاب الجنايات، وفي الدّيات‏.‏

هل الأذنان من الرّأس‏؟‏

3 - في اعتبار الأذنين من الرّأس أو من الوجه خلاف بين الفقهاء ويترتّب على ذلك الاختلاف في حكم مسح الأذنين، هل هو واجب أم غير واجب‏؟‏ وهل يجزئ مسحهما بماء الرّأس أم لا يجزئ‏؟‏ وفصّل الفقهاء القول في ذلك في كيفيّة المسح في باب الوضوء‏.‏

داخل الأذنين

4 - اختلف الفقهاء في اعتبار داخل الأذن من الجوف‏.‏ وبناءً على ذلك اختلفوا في إفطار الصّائم بإدخال شيء إلى باطن الأذن إذا لم يصل إلى حلقه‏.‏ وفصّلوا الكلام في ذلك في كتاب الصّيام في باب ما يفطر الصّائم‏.‏

هل يعبّر بالأذن عن الجسد كلّه‏؟‏

5 - اتّفق الفقهاء على أنّ الأذن عضو من البدن لا يعبّر به عن الكلّ، وفرّعوا على ذلك أنّ المرء إذا أضاف الظّهار أو الطّلاق أو العتق ونحوها إلى الأذن لا يقع ما قصد إليه‏.‏ كما يؤخذ ذلك من كلامهم في الأبواب المذكورة‏.‏

هل الأذن من العورة‏؟‏

6 - اتّفق الفقهاء على أنّ الأذن في المرأة من العورة، ولا يجوز إظهارها للأجنبيّ‏.‏ وما اتّصل بها من الزّينة - كالقرط - هو من الزّينة الباطنة الّتي لا يجوز إظهارها أيضاً إلاّ ما حكاه القرطبيّ عن ابن عبّاس والمسور بن مخرمة وقتادة من اعتبار القرط من الزّينة الظّاهرة الّتي يجوز إظهارها‏.‏ واتّفقوا كذلك على أنّ الأذن موضع للزّينة في المرأة دون الرّجل، ولذلك أباحوا ثقب أذن الجارية لإلباسها القرط‏.‏ وليس لذلك مكان محدّد في كتب الفقه، وقد ذكره الحنفيّة في كتاب الحظر والإباحة، وذكره القليوبيّ في كتاب الصّيال، وذكره بعضهم فيما يحقّ للوليّ فعله في الصّغير المولى عليه‏.‏

7 - واتّفق الفقهاء على عدم إجزاء مقطوعة الأذن في الأضحيّة والهدي، واختلفوا فيما لو تعيّبت أذنها عيباً فاحشاً، فأجازها البعض ولم يجزها البعض الآخر‏.‏ ومحلّ تفصيل ذلك في كتاب الأضاحيّ من كتب الفقه‏.‏

8 - يستحبّ للمؤذّن أن يضع يديه في أذنيه أثناء الأذان‏.‏ وقد نصّ الفقهاء على ذلك في كتاب الأذان عند كلامهم على ما يستحبّ للمؤذّن‏.‏

9 - ويسنّ للرّجل رفع يديه إلى حذاء أذنيه، عند البعض، في تكبيرة الإحرام وتكبيرات الانتقال في الصّلاة‏.‏ وقد ذكر الفقهاء ذلك في كتاب الصّلاة‏.‏

10 - ذكر الفقهاء أنّ وسم الحيوانات لغاية مشروعة - كعدم اختلاطها بغيرها - مباح، ويرى الشّافعيّة أنّ أفضل مكان لوسم الغنم هو آذانها، لقلّة الشّعر فيها‏.‏ وقد ذكروا هذه المسألة في باب قسم الصّدقات‏.‏

11 - وما يسيل من الأذن في حالة المرض نجس، وفي انتقاض الوضوء به خلاف بين الفقهاء مبنيّ على خلافهم في انتقاض الوضوء بكلّ خارج نجس من البدن، وقد تكلّموا على ذلك في باب الوضوء عند كلامهم على نواقض الوضوء‏.‏

إذن

التّعريف

1 - من معاني الإذن في اللّغة‏:‏ إطلاق الفعل والإباحة‏.‏ ولم يخرج الفقهاء في استعمالهم للإذن عن المعنى اللّغويّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الإباحة‏:‏

2 - الإباحة هي التّخيير بين الفعل والتّرك دون ترتّب ثواب أو عقاب‏.‏ ويذكرها الأصوليّون عند الكلام على الحكم وأقسامه باعتبارها من أقسام الحكم الشّرعيّ عند جمهور الأصوليّين‏.‏ ولهم في ذلك تفصيلات كثيرة من حيث تقسيم الإباحة، وتقسيم متعلّقها وهو المباح

‏(‏انظر‏:‏ الملحق الأصوليّ‏)‏‏.‏ والفقهاء كذلك يفسّرون الإباحة بالمعنى السّابق الّذي ذكره الأصوليّون‏.‏ وأيضاً يستعمل الفقهاء الإذن والإباحة بمعنًى واحد، وهو ما يفيد إطلاق التّصرّف فقد قال الجرجانيّ‏:‏ الإباحة هي الإذن بالإتيان بالفعل كيف شاء الفاعل‏.‏ وقال ابن قدامة‏:‏ من نثر على النّاس نثاراً كان إذناً في التقاطه وأبيح أخذه، وفسّر الشّيخ عليش‏:‏ المباح بالمأذون فيه‏.‏ وإذا كان الإذن يستعمل بمعنى الإباحة فلأنّ الإباحة مرجعها الإذن‏.‏ فالإذن هو أصل الإباحة‏.‏ ولولا صدور ما يدلّ على الإذن لما كان الفعل جائز الوقوع، فالإباحة الشّرعيّة حكم شرعيّ عند جمهور الأصوليّين، ويتوقّف وجوده على الشّرع‏.‏ وبذلك يتبيّن أنّ الإباحة تكون بمقتضى الإذن سواء أكان صريحاً أم ضمناً، وسواء أكان من الشّارع أم من العباد بعضهم لبعض‏.‏

ب - الإجازة‏:‏

3 - الإجازة معناها الإمضاء يقال‏:‏ أجاز أمره إذا أمضاه وجعله جائزاً، وأجزت العقد جعلته جائزاً ونافذاً‏.‏ والإذن هو إجازة الإتيان بالفعل‏.‏ فالإجازة والإذن كلاهما يدلّ على الموافقة على الفعل إلاّ أنّ الإذن يكون قبل الفعل، والإجازة تكون بعد وقوعه‏.‏

ج - الأمر‏:‏

4 - الأمر من معانيه لغةً‏:‏ الطّلب، واصطلاحاً‏:‏ طلب الفعل على سبيل الاستعلاء‏.‏ فكلّ أمر يتضمّن إذناً بالأولويّة‏.‏

أقسام الإذن

الإذن قد يكون عامّاً وقد يكون خاصّاً، والعموم والخصوص قد يكون بالنّسبة للمأذون له، وقد يكون بالنّسبة للموضوع أو الوقت أو الزّمان‏.‏

أ - الإذن بالنّسبة للمأذون له‏:‏

5 - الإذن قد يكون عامّاً بالنّسبة للشّخص المأذون له، وذلك كمن ألقى شيئاً وقال‏:‏ من أخذه فهو له فلمن سمعه أو بلغه ذلك القول أن يأخذه، وكمن وضع الماء على بابه، فإنّه يباح الشّرب منه لمن مرّ به من غنيّ أو فقير، وكذا من غرس شجرةً في موضع لا ملك فيه لأحد، ولم يقصد الإحياء، فقد أباح للنّاس ثمارها‏.‏ وكأن يجعل الإمام للمسلمين موضعاً لوقوف الدّوابّ فيه، فلكلّ مسلم حقّ الوقوف فيه؛ لأنّه مأذون من السّلطان‏.‏ ومن ذلك الدّعوة العامّة للوليمة‏.‏ وقد يكون الإذن خاصّاً بشخص، كمن يقول‏:‏ هذا الشّيء صدقة لفلان، أو كالوقف على أهل مذهب معيّن لصرف غلّة الوقف عليهم، أو تخصيص أحد الضّيفان بطعام خاصّ، أو اقتصار الدّعوة على بعض النّاس‏.‏

ب - الإذن بالنّسبة للتّصرّف والوقت والمكان‏:‏

6 - قد يكون الإذن عامّاً بالنّسبة للتّصرّف والوقت والمكان، وقد يكون خاصّاً، فإذن السّيّد لعبده في التّجارة يعتبر عند الحنفيّة والمعتمد عند المالكيّة إذناً عامّاً يجيز للعبد المأذون له التّصرّف في سائر التّجارات ما عدا التّبرّعات، حتّى لو أذن له في نوع من أنواع التّجارات فهو مأذون في جميعها، خلافاً لزفر؛ لأنّ الإذن عند الحنفيّة إسقاط الحقّ، والإسقاطات لا تتوقّت بوقت، ولا تتخصّص بنوع دون نوع، ولا بمكان دون مكان، فلو أذن له يوماً صار مأذوناً مطلقاً حتّى يحجر عليه، وكذلك لو قال له‏:‏ أذنت لك في التّجارة في البرّ دون البحر، إلاّ أنّه إذا أمره بشراء شيء خاصّ كأن يقول له‏:‏ اشتر بدرهم لحماً لنفسك أو اشتر كسوةً ففي الاستحسان يقتصر على ما أذن له فيه؛ لأنّ هذا من باب الاستخدام، يقول ابن عابدين‏:‏ اعلم أنّ الإذن بالتّصرّف إذن بالتّجارة وبالشّخص استخدام‏.‏ وعند الشّافعيّة والحنابلة وبعض المالكيّة وزفر من الحنفيّة يتقيّد الإذن بالنّسبة للعبد، فلا يصير العبد مأذوناً إلاّ فيما أذن له فيه سيّده؛ لأنّ تصرّفه مستفاد من الإذن، فاقتصر على المأذون فيه، فإذا أذن له في التّجارة في نوع، كالثّياب، أو في وقت كشهر كذا أو في بلد فلا يجوز له أن يتجاوزه، كالوكيل وعامل القراض؛ لأنّه متصرّف بالإذن من جهة الآدميّ، فوجب أن يختصّ بما أذن له فيه، فإن لم ينصّ على شيء وتصرّف حسب المصلحة عند الشّافعيّة فيتصرّف في كلّ الأنواع والأزمنة والبلدان‏.‏ وأمثلة الإذن الخاصّ والعامّ كثيرة كما في الوكالة والقراض والشّركة والإعارة والإجارة وغيرها، وتنظر في أبوابها‏.‏

من له حقّ الإذن إذن الشّارع

7 - إذن الشّارع يكون إمّا بنصّ، أو باجتهاد من الحاكم فيما يتعلّق بمصالح العباد، مع مراعاة القواعد العامّة لمقاصد الشّريعة، كجلب المصالح ودرء المفاسد‏.‏ ووجوه الإذن من الشّارع متعدّدة الأسباب لتفرّع مناحي الشّريعة في الحفاظ على كيان الفرد والمجتمع‏.‏

8 - فالإذن من الشّارع قد يكون للتّوسعة والتّيسير على العباد في حياتهم، كالبيع والشّراء والإجارة والرّهن، كما جاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأحلّ اللّه البيع وحرّم الرّبا‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فرهان مقبوضة‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ وكذلك الإذن بالتّمتّع بالطّيّبات، كالمأكل والمشرب والمسكن والملبس، كما جاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل من حرّم زينة اللّه الّتي أخرج لعباده والطّيّبات من الرّزق‏}‏‏.‏ والإذن بالنّكاح للتّمتّع والتّناسل على ما جاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فانكحوا ما طاب لكم من النّساء‏}‏‏.‏ ومن ذلك أيضاً الإذن بالصّيد إلاّ في حالة الإحرام والإذن بإحياء الموات، والإذن بالانتفاع بالطّريق العامّ والمسيل العامّ وهكذا‏.‏

9 - وقد يكون إذن الشّارع بالانتفاع على وجه التّعبّد والقربة، كالانتفاع بالمساجد والمقابر والرّباطات‏.‏ والإذن في كلّ ما سبق يجب أن يقتصر فيه على الأصل الّذي ورد من الشّارع مقيّداً بعدم الضّرر بالغير، إذ لا ضرر ولا ضرار في الإسلام‏.‏ وقد وضع الفقهاء لكلّ هذه التّصرّفات قواعد وشرائط لا بدّ من مراعاتها، ومخالفة ذلك تبطل التّصرّف‏.‏

10 - وقد يكون الإذن من الشّارع رفعاً للحرج ودفعاً للمشقّة؛ لأنّ الشّارع لم يقصد إلى التّكليف بالشّاقّ والإعنات فيه والنّصوص الدّالّة على ذلك كثيرة، منها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يكلّف اللّه نفساً إلاّ وسعها‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏يريد اللّه بكم اليسر ولا يريد بكم العسر‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏يريد اللّه أن يخفّف عنكم‏}‏‏.‏ كذلك ورد أنّ «الرّسول صلى الله عليه وسلم ما خيّر بين أمرين إلاّ اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً»، وكان صلى الله عليه وسلم ينهى عن الوصال في العبادة ويقول‏:‏ «خذوا من الأعمال ما تطيقون فإنّ اللّه لن يملّ حتّى تملّوا»‏.‏ وعلى هذا الأساس كان الإذن للمسافر والمريض بالفطر في رمضان‏.‏ ولقد نقل عن مالك والشّافعيّ منع الصّوم إذا خاف التّلف به وأنّه لا يجزئه إن فعل، ونقل المنع في الطّهارة عند خوف التّلف والانتقال إلى التّيمّم‏.‏ والدّليل على المنع قوله‏:‏ ‏{‏ولا تقتلوا أنفسكم‏}‏، وجاء في حديث النّاذر للصّيام قائماً في الشّمس حيث قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم حين علم بذلك‏:‏ «مروه فليستظلّ وليتكلّم وليتمّ صومه»‏.‏ وكذلك كان الإذن بإباحة ما كان محرّماً لذاته وأذن به لعارض كأكل الميتة ولحم الخنزير وشرب الخمر لإزالة الغصّة وذلك إذا عرضت ضرورة وهي خشية الموت أو التّلف، وكذلك الإذن بإباحة ما كان محرّماً لغيره كالإذن بنظر الأجنبيّة للزّواج وبنظر العورة إذا عرضت حاجة كالعلاج‏.‏ وكلّ ما كان من هذا القبيل ممّا فيه مشقّة وحرج سواء أكانت المشقّة حاصلةً باختيار المكلّف كالنّاذر الصّيام قائماً في الشّمس، أم كانت المشقّة تابعةً للفعل كالمريض غير القادر على الصّوم أو الصّلاة، والحاجّ الّذي لا يقدر على الحجّ ماشياً أو راكباً إلاّ بمشقّة خارجة عن المعتاد، فهذا هو الّذي ورد فيه اليسر ومشروعيّة الرّخص‏.‏ ولقد وضع الفقهاء بعض القواعد العامّة لذلك، كقولهم‏:‏ الضّرورات تبيح المحظورات‏.‏ المشقّة تجلب التّيسير‏.‏ الضّرر يزال‏.‏ أمّا إذا كانت المشقّة الدّاخلة على المكلّف ليست بسببه، ولا بسبب دخوله في عمل تنشأ عنه فلقد فهم من مجموع الشّريعة الإذن في دفعها على الإطلاق رفعاً للمشقّة، بل إنّ الشّارع أذن في التّحرّز منها عند توقّعها وإن لم تقع، ومن ذلك الإذن في دفع ألم الجوع والعطش والحرّ والبرد، والإذن في التّداوي عند وقوع الأمراض، وفي التّوقّي من كلّ مؤذ آدميّاً كان أو غيره‏.‏ ولذلك يقول الفقهاء‏:‏ لا ضمان في قتل الصّائل على نفس أو طرف أو بضع أو مال‏.‏

إذن المالك

11 - الملك - كما جاء في دستور العلماء - هو اتّصال شرعيّ بين الإنسان وبين شيء يكون سبباً لتصرّفه فيه ومانعاً من تصرّف غيره فيه‏.‏ ويقول ابن نجيم‏:‏ الملك قدرة يثبتها الشّارع ابتداءً على التّصرّف‏.‏ والأصل أنّ كلّ مملوك لشخص لا يجوز تصرّف غيره فيه بدون إذنه إلاّ لحاجة، كأن يحتاج المريض لدواء، فإنّه يجوز للولد والوالد الشّراء من مال المريض ما يحتاج إليه المريض بدون إذنه‏.‏ وإذن المالك لغيره فيما يملكه يكون على الوجوه الآتية‏:‏

أ - الإذن بالصّرف‏:‏

12 - يجوز للمالك أن يأذن لغيره بالتّصرّف فيما يملكه، وذلك كما في الوكالة والقراض ‏(‏المضاربة‏)‏ فإنّ الوكيل وعامل القراض يتصرّفان في ملك غيرهما بإذن المالك على ما يقع عليه الإذن من تصرّفات، ومن ذلك أيضاً الوصيّ وناظر الوقف، ولذلك شروط مفصّلة في كتب الفقه في الوكالة والقراض والوصيّة والوقف‏.‏

ب - الإذن بانتقال الملك إلى الغير‏:‏

13 - كما في البيع والهبة والوقف بشروطه‏.‏

ج - الإذن بالاستهلاك‏:‏

14 - وذلك بأن يأذن المالك باستهلاك ما هو مملوك له من رقبة العين، حيث يأذن لغيره بتناولها وأخذها وذلك كالطّعام الّذي يقدّم في الولائم والمنائح والضّيافات، وما ينثر على النّاس في الأحفال من دراهم وورود، ويشمل ذلك أيضاً الإذن بالاستهلاك ببدل كما في القرض‏.‏

د - الإذن بالانتفاع‏:‏

15 - وذلك كأن يأذن بعض النّاس لبعضهم بالانتفاع بالشّيء المملوك، والإذن بالانتفاع لا يقتضي ملكيّة الآذن للعين بل يكفي كونه مالكاً للمنفعة، والإذن بالانتفاع قد يكون بدون عوض كما في العاريّة، وقد يكون بعوض كما في الإجارة‏.‏ وقد يتنوّع الإذن بالانتفاع حسب كون الآذن مالكاً للعين ملكيّةً تامّةً أو مالكاً لمنفعتها فقط وقت الإذن، فقد يكون الآذن مستأجراً ويأذن لغيره بالانتفاع في الجملة على تفصيل في المذاهب، ومثل ذلك الإعارة والوصيّة بالمنفعة والوقف فيكون للمستعير والموقوف عليه والموصى له بالمنفعة - إذا كان في صيغها ما يفيد الإذن بذلك - حقّ الإذن للغير بالانتفاع‏.‏ ومن ذلك أيضاً إذن الأفراد بعضهم لبعض بالانتفاع بالطّريق الخاصّ والمجرى الخاصّ‏.‏ فالإذن في كلّ ذلك إذن بالانتفاع، إلاّ أنّه يجب أن يراعى أن يكون الإذن لا معصية فيه كإعارة الجارية للوطء وأن يكون الانتفاع على الوجه الّذي أذن فيه المالك أو دونه في الضّرر وإلاّ كان متعدّياً‏.‏

إذن صاحب الحقّ

16 - حقّ الإنسان هو ما تتعلّق به مصلحة خاصّة مقرّرة بمقتضى الشّريعة، سواء أكان ماليّاً أم غير ماليّ‏.‏ والأصل أنّ كلّ تصرّف إذا كان يمسّ حقّاً لغير من يباشره وجب لنفاذه الإذن فيه من صاحب هذا الحقّ‏.‏ وصور ذلك كثيرة في مسائل الفقه ومنها الأمثلة الآتية‏:‏

17 - أ - من حقوق الزّوج على الزّوجة منعها من الخروج من منزلها، وعلى ذلك فلا يجوز لها الخروج إلاّ بإذنه، ويستثنى من ذلك الخروج لحقّ أقوى من حقّه كحقّ الشّرع ‏(‏مثل حجّة الفريضة‏)‏، أو للعلاج، أو لزيارة أبويها على تفصيل في المذاهب‏.‏

18 - ب - للمرتهن حقّ حبس المرهون، حتّى يستوفي دينه، وعلى ذلك فلا يجوز للرّاهن بيع المرهون إلاّ بإذن المرتهن، وإذا باعه فهو موقوف على إجازة المرتهن أو قضاء دينه وذلك عند الحنفيّة وللفقهاء في ذلك تفصيل ينظر في مصطلح ‏(‏رهن‏)‏‏.‏

19 - ج - للواهب قبل إقباض الهبة أو الإذن في الإقباض حقّ الملكيّة، وعلى ذلك فلا يجوز للموهوب له قبض الهبة إلاّ بإذن الواهب، فلو قبض بلا إذن أو إقباض لم يملكه، وذلك عند الشّافعيّة، خلافاً للمالكيّة على تفصيل للفقهاء في ذلك‏.‏

20 - د - للزّوجة حقّ في الوطء والاستمتاع ولذلك لا يجوز للزّوج أن يعزل عن الحرّة إلاّ بإذنها‏.‏

21 - هـ - للمرأة حقّ في أمر نفسها عند إنكاحها، ولذلك تستأذن عند إنكاحها على الوجوب بالإجماع إن كانت ثيّباً، وعلى الاختلاف بين الفقهاء بين الوجوب والاستحباب إن كانت بكراً‏.‏ 22 ولصاحب البيت حقّ في عدم دخول أحد إلاّ بإذنه، وعلى ذلك فلا يجوز لأحد دخول بيت إلاّ بإذن من ساكنه لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيّها الّذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتّى تستأنسوا‏}‏، أي تستأذنوا‏.‏ والصّور من هذا النّوع كثيرة تنظر في مواضعها‏.‏

إذن القاضي

23 - القضاء من الولايات العامّة، والغرض منه إقامة العدل وإيصال الحقّ إلى مستحقّه، ولمّا كانت تصرّفات النّاس بعضهم مع بعض قد يشوبها الجور وعدم الإنصاف ممّا يكون محلّ نزاع بينهم كان لا بدّ لنفاذ هذه التّصرّفات من إذن القاضي تحقيقاً للعدل ومنعاً للتّنازع ومن أمثلة ذلك ما يأتي‏:‏

24 - تجب النّفقة على الزّوج لزوجته، فإذا أعسر الزّوج بالنّفقة فعند الحنفيّة لا يفرّق بينهما، بل يفرض القاضي لها النّفقة، ثمّ يأمرها بالاستدانة، فإذا استدانت بأمر القاضي صارت ديناً على الزّوج ويطالب بها، أمّا لو استدانت بغير أمر القاضي فتكون المطالبة عليها وينظر التّفصيل في مصطلحي ‏(‏نفقة وإعسار‏)‏‏.‏

25 - تجب الزّكاة في مال الصّغير عند المالكيّة، فإذا كان للصّغير وصيّ فقد قال متأخّرو المذهب‏:‏ لا يزكّي عنه الوصيّ إلاّ بإذن من الحاكم، خروجاً من الخلاف وخاصّةً إذا كان هناك حاكم حنفيّ يرى عدم وجوب الزّكاة في مال المحجور عليه، كذلك قال الإمام مالك‏:‏ إذا وجد الوصيّ في التّركة خمراً فلا يريقها إلاّ بعد مطالعة السّلطان لئلاّ، يكون مذهبه جواز تخليلها‏.‏

26 - يقول الحنابلة‏:‏ من غاب وله وديعة أو نحوها وأولاد فإنّ الإنفاق عليهم لا يكون إلاّ بإذن الحاكم أمّا الإنفاق على اللّقيط فلا يشترط فيه إذن الحاكم وإن كان الأولى إذنه احتياطاً‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ وديعة - نفقة‏)‏‏.‏ والصّور من هذا النّوع كثيرة وتنظر في مواضعها‏.‏

إذن الوليّ

27 - الوليّ هو من له ولاية التّصرّف على غيره، في النّفس أو في المال؛ لصغر أو سفه أو رقّ أو غير ذلك ويظلّ الحجر قائماً إلى أن يزول سببه‏.‏ ولمّا كان المحجور عليهم قد يعود تصرّفهم بالضّرر عليهم، أو على السّيّد بالنّسبة للعبد، كان لا بدّ من نظر الوليّ وإذنه منعاً للضّرر‏.‏ وفي الجملة فإنّ تصرّفات السّفيه والمميّز والعبد في المال والنّكاح لا بدّ فيها من إذن الوليّ عند جمهور الفقهاء، وعند أبي حنيفة لا حجر على السّفيه والصّغير عند الشّافعيّة، وفي رأي للحنابلة، لا يجوز تصرّفه ولو بالإذن؛ لأنّه يشترط البلوغ لصحّة عقدي النّكاح والبيع، وكذلك السّفيه في الأصحّ عند الشّافعيّة، وفي رأي للحنابلة لا يصحّ تصرّفه في المال ولو أذن له المولى لأنّ الحجر عليه لتبذيره وسوء تصرّفه، فإذا أذن له فقد أذن فيما لا مصلحة فيه، وقيل يصحّ بالإذن، أمّا نكاحه فيصحّ‏.‏ أمّا غير المميّز والمجنون فلا يصحّ تصرّفهما ولو بالإذن، وقد اختلف الفقهاء إذا تصرّف المميّز والسّفيه والعبد بدون إذن الوليّ بين الإجازة والرّدّ والبطلان‏.‏

28 - والمرأة وإن كانت رشيدةً لا بدّ من إذن الوليّ عند نكاحها - بكراً كانت أو ثيّباً - عند جمهور الفقهاء؛ لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أيّما امرأة نكحت بدون إذن وليّها فنكاحها باطل»‏.‏ وعند أبي حنيفة وأبي يوسف - في ظاهر الرّواية - ينعقد نكاح الحرّة العاقلة البالغة برضاها وإن لم يعقد عليها وليّ - بكراً كانت أو ثيّباً؛ لأنّها تصرّفت في خالص حقّها، وهي من أهله؛ لكونها عاقلةً مميّزةً، ولها اختيار الأزواج، وإنّما يطالب الوليّ بالتّزويج كي لا تنسب إلى الوقاحة‏.‏

إذن متولّي الوقف

29 - متولّي الوقف أو ناظر الوقف هو من يتولّى القيام بشئون الوقف وحفظه وعمارته وتنفيذ شرط الواقف، ولا يتصرّف إلاّ بما فيه مصلحة الوقف، ولا يجوز للموقوف عليهم أو لغيرهم إحداث شيء فيه، من بناء أو غرس إلاّ بإذن ناظر الوقف - إذا رأى فيه مصلحةً، ولا يحلّ للمتولّي الإذن إلاّ فيما يزيد الوقف به خيراً‏.‏ كذلك من وظيفة النّاظر تحصيل الغلّة، وقسمتها على مستحقّيها، وتنزيل الطّلبة منازلهم، ولا يجوز مثل ذلك للجابي، ولا للعامل ولا للمدرّس إلاّ بإذن النّاظر‏.‏ ومنافع الموقوف ملك للموقوف عليه، يستوفيها بنفسه وبغيره، بإعارة أو إجارة، كما يقول الشّافعيّة، ولكنّه لا يمكّن من ذلك إلاّ بإذن النّاظر، مع تفصيل كثير للفقهاء في ذلك، وينظر تفصيل ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏وقف‏)‏‏.‏

إذن المأذون له

30 - غالباً ما يطلق الفقهاء لفظ المأذون له على العبد الّذي أذن له سيّده في التّجارة، ولذلك يعقدون له باباً يسمّى باب المأذون‏.‏ ولقد اختلف الفقهاء بالنّسبة للعبد المأذون‏:‏ هل يملك أن يأذن لغيره في التّجارة أم لا‏؟‏ فعند الحنفيّة والمالكيّة يجوز أن يأذن العبد المأذون له لغيره في التّجارة؛ لأنّ الإذن في التّجارة تجارة‏.‏ أمّا الشّافعيّة والحنابلة فإنّهم يرون أنّه لا يجوز له أن يأذن لغيره بالتّجارة بدون إذن سيّده، فإذا أذن له سيّده بذلك جاز، قال الشّافعيّة‏:‏ وهذا في التّصرّف العامّ، فإن أذن له في تصرّف خاصّ كشراء ثوب جاز‏.‏

31 - وممّا يدخل في ذلك أيضاً عامل القراض باعتباره مأذوناً من ربّ المال في التّجارة‏.‏ ويرى جمهور الفقهاء أنّه لا يجوز لعامل المضاربة أن يضارب غيره إلاّ بإذن ربّ المال، فإن أذن له جاز‏.‏ ويرى الحنفيّة أنّ ربّ المال لو فوّض الأمر للعامل، بأن قال له اعمل برأيك مثلاً، فإنّه يجوز للعامل أن يضارب بدون إذن ربّ المال‏.‏ أمّا إذا قيّده بشيء فلا يجوز له‏.‏ والأصحّ عند الشّافعيّة أنّه لا يجوز أن يقارض غيره ولو بالإذن، لأنّ القراض على خلاف القياس‏.‏ والرّأي الثّاني‏:‏ يجوز بالإذن، وقوّاه السّبكيّ، وقال إنّه الّذي قطع به الجمهور‏.‏ ومن ذلك أيضاً الوكيل والوصيّ والقاضي، وتنظر في مصطلحاتها‏.‏

التّعارض في الإذن

32 - إذا اجتمع اثنان أو أكثر، ممّن لهم حقّ الإذن في تزويج المرأة مثلاً، وكانوا في درجة واحدة، كإخوة أو بنيهم أو أعمام، وتشاحّوا فيما بينهم، وطلب كلّ منهم أن يزوّج، فعند الحنابلة والشّافعيّة يقرع بينهم، قطعاً للنّزاع، ولتساويهم في الحقّ وتعذّر الجمع بينهم، فمن خرجت قرعته زوّج، وقد كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه‏.‏ وعند المالكيّة‏:‏ ينظر الحاكم فيمن يراه أحسنهم رأياً من الأولياء، وعند الحنفيّة‏:‏ يكون لكلّ واحد منهم أن يزوّجها على حياله - رضي الآخر أو سخط - إذا كان التّزويج من كفء بمهر وافر‏.‏ وهذا إذا اتّحد الخاطب، أمّا إذا تعدّد الخاطب فإنّه يعتبر رضاها، وتزوّج بمن عيّنته، فإن لم تعيّن المرأة واحداً ورضيت بأيّ واحد منهم، نظر الحاكم في تزويجها من الأصلح، كما يقول المالكيّة والشّافعيّة فإن بادر أحدهم فزوّجها من كفء فإنّه يصحّ؛ لأنّه لم يوجد ما يميّز أحدهم على غيره‏.‏ ولو أذنت لهم في التّزويج، فزوّجها أحد الأولياء المستوين في الدّرجة من واحد، وزوّجها الآخر من غيره، فإن عرف السّابق فهو الصّحيح والآخر باطل، وإن وقع العقدان في زمن واحد، أو جهل السّابق منهما فباطلان، وهذا باتّفاق، مع تفصيل في ذلك‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ نكاح وليّ‏)‏‏.‏

33 - وفي الوصيّة لو أوصي لاثنين معاً فهما وصيّان، ولا يجوز لواحد منهما الانفراد بالتّصرّف، فإن اختلف الوصيّان في أمر، كبيع وشراء، نظر الحاكم فيما فيه الأصلح، كما يقول المالكيّة‏.‏ وعند الحنفيّة - ما عدا أبا يوسف - لا ينفرد أحد الوصيّين بالتّصرّف إلاّ إذا كانا من جهة قاضيين من بلدتين، فإنّه حينئذ يجوز أن ينفرد أحدهما بالتّصرّف‏.‏ وقال أبو يوسف يجوز أن ينفرد كلّ واحد منهما بالتّصرّف في جميع الأمور‏.‏

بم يكون الإذن‏؟‏

34 - للتّعبير عن الإذن وسائل متعدّدة، ومن ذلك اللّفظ الصّريح الدّالّ على الإذن، كقول الأب لولده المميّز‏:‏ أذنت لك في التّجارة، أو اشتر لي ثوباً وبعه، أو اتّجر في كذا‏.‏

35 - وقد يكون الإذن بالإشارة أو الكتابة أو الرّسالة وذلك كإذن المرأة في إنكاحها إذا كانت خرساء، أو إذن الوليّ بالإشارة إذا كان أخرس، فإنّ الإذن هنا يصحّ بالإشارة إذا كانت الإشارة معهودةً مفهومةً، وكذلك الدّعوة إلى الوليمة بكتاب أو رسول تعتبر إذناً في الدّخول والأكل، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «إذا دعي أحدكم فجاء مع الرّسول فإنّ ذلك له إذن» وكما يكون الإذن مباشرةً ممّن يملكه فإنّه يكون بالإنابة منه‏.‏ كذلك التّوكيل بالكتابة والرّسالة يعتبر إذناً‏.‏

36 - وقد يعتبر السّكوت إذناً في بعض التّصرّفات‏.‏ والأصل أنّ السّكوت لا يعتبر إذناً، وذلك لقاعدة‏:‏ «لا ينسب لساكت قول » ولكن خرج عن هذه القاعدة بعض الصّور الّتي يعتبر السّكوت فيها إذناً، ومن ذلك سكوت البكر عند وليّها، فإنّ سكوتها يعتبر إذناً، وذلك بمقتضى الحديث‏:‏ «استأمروا النّساء في أبضاعهنّ فإنّ البكر تستحي فتسكت فهو إذنها» وهذا باتّفاق الفقهاء سواء أكان الاستئذان مستحبّاً أم واجباً‏.‏

37 - وقد اختلف الفقهاء في سكوت الوليّ عند رؤيته مولّيه يبيع ويشتري فسكت هل يعتبر سكوته إذناً أم لا‏؟‏ فعند الحنفيّة وفي قول للمالكيّة يعتبر إذناً، وعند الشّافعيّة والحنابلة وزفر من الحنفيّة، وفي قول للمالكيّة لا يعتبر إذناً؛ لأنّ ما يكون الإذن فيه شرطاً لا يعتبر فيه السّكوت، كمن يبيع مال غيره وصاحبه ساكت فلا يعتبر إذناً؛ ولأنّ السّكوت يحتمل الرّضا ويحتمل السّخط، فلا يصلح دليل الإذن عند الاحتمال‏.‏

38 - وقد يكون الإذن بطريق الدّلالة، وذلك كتقديم الطّعام للضّيوف، فإنّه قرينة تدلّ على الإذن وكشراء السّيّد لعبده بضاعةً ووضعها في حانوته، وأمره بالجلوس فيه، وكبناء السّقايات والخانات للمسلمين وأبناء السّبيل‏.‏

تقييد الإذن بالسّلامة

39 - من القواعد الفقهيّة أنّ المتولّد من مأذون فيه لا أثر له، أي لا يكون مضموناً، ويستثنى من هذه القاعدة ما كان مشروطاً بسلامة العاقبة‏.‏ ويقسم الحنفيّة الحقوق الّتي تثبت للمأذون إلى قسمين‏:‏ حقوق واجبة، سواء أكانت بإيجاب الشّارع، كحقّ الإمام في إقامة الحدّ، وفي القصاص والتّعزير، أم كانت واجبةً بإيجاب العقد، كعمل الفصّاد والحجّام والختّان‏.‏ وهذه الحقوق لا يشترط فيها سلامة العاقبة إلاّ بالتّجاوز عن الحدّ المعتاد‏.‏ حقوق مباحة، كحقّ الوليّ في التّأديب عند أبي حنيفة، وحقّ الزّوج في التّعزير فيما يباح له، وحقّ الانتفاع بالطّريق العامّ، وهذه الحقوق تتقيّد بوصف السّلامة‏.‏ وبالنّظر في ذلك عند بقيّة الفقهاء يتبيّن أنّهم يسايرون الحنفيّة في هذا المعنى، إلاّ أنّ الفقهاء جميعاً - ومنهم الحنفيّة - يختلفون في تحديد الحقوق الّتي تتقيّد بوصف السّلامة، والّتي لا تتقيّد بها، تبعاً لاختلاف وجهتهم في تعليل الفعل، حتّى بين فقهاء المذهب الواحد نجد ذلك في الفعل الواحد كالخلاف بين الإمام أبي حنيفة وصاحبيه في اقتصاص الإنسان لنفسه‏.‏ وبيان ذلك فيما يأتي‏:‏

أوّلاً - ما لا يتقيّد بوصف السّلامة‏:‏

أ - الحقوق الواجبة بإيجاب الشّارع ومن أمثلتها‏:‏

40 - إذا أقام الإمام الحدّ، فجلد شارب الخمر، أو قطع يد السّارق، فمات المحدود فلا ضمان لأنّ الحدود إذا أتي بها على الوجه المشروع فلا ضمان فيما تلف بها؛ لأنّ الإمام فعل ذلك بأمر اللّه وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فلا يؤاخذ‏.‏ وكذلك إذا اقتصّ من الجاني فيما دون النّفس دون تجاوز، فسرت الجراحة، فمات فلا ضمان؛ لأنّه بفعل مأذون فيه، فلا يتقيّد بوصف السّلامة‏.‏ وهذا باتّفاق الفقهاء‏.‏

41 - وإذا عزّر الإمام فيما شرع فيه التّعزير، فمات المعزّر لم يجب ضمانه؛ لأنّه فعل ما فعل بأمر الشّرع، وفعل المأمور لا يتقيّد بشرط السّلامة، وهذا عند الحنفيّة والحنابلة والمالكيّة‏.‏ وفي قول للمالكيّة إنّه لا يضمن إن ظنّ السّلامة، أمّا عند الشّافعيّة فإنّه يضمن؛ لأنّ تعزير الإمام عندهم مشروط بسلامة العاقبة‏.‏

42 - وإذا اقتصّ المجنيّ عليه بنفسه، فقطع يد القاطع، فسرت الجراحة، فمات فلا ضمان؛ لأنّه قطع مستحقّ مقدّر فلا تضمن سرايته كقطع السّارق، وهذا عند جميع الفقهاء، ما عدا أبا حنيفة، فإنّه يضمن عنده، وتكون الدّية على عاقلته؛ لأنّ القطع ليس بمستحقّ على من له القصاص، بل هو مخيّر فيه والعفو أولى، وعند المالكيّة والحنابلة يؤدّب لافتياته على الإمام، ولا ضمان عليه‏.‏

ب - الحقوق الواجبة بإيجاب العقد ومن أمثلتها‏:‏

43 - الحجّام والفصّاد والختّان والطّبيب لا ضمان عليهم فيما يتلف بفعلهم، إذا كان ذلك بالإذن ولم يجاوزوا الموضع المعتاد، وكانت لهم بصنعتهم بصارة ومعرفة، وهذا عند الحنفيّة والحنابلة والمالكيّة والشّافعيّة في الأصحّ

44 - وفي عقد الإجارة يد المستأجر يد أمانة، ولا يضمن المستأجر ما تلف بالاستعمال المأذون فيه، وأمّا لو فرّط أو جاوز ما أذن له فيه، بأن ضرب الدّابّة أو كبحها فوق العادة فتلفت ضمن، وهذا باتّفاق‏.‏

ثانياً - ما يتقيّد بوصف السّلامة‏:‏

45 - وهو الحقوق المباحة ومن أمثلتها‏:‏ ضرب الزّوجة للنّشوز، فيه الضّمان فيما ينشأ منه من تلف عند الحنفيّة والشّافعيّة، ولا ضمان فيه عند الحنابلة والمالكيّة إن ظنّ السّلامة‏.‏

46 - والانتفاع بالطّريق العامّة من سير وسوق مأذون فيه لكلّ النّاس بشرط سلامة العاقبة، فما لم تسلم عاقبته لم يكن مأذوناً فيه، فالمتولّد منه يكون مضموناً، إلاّ إذا كان ممّا لا يمكن الاحتراز منه، وعلى ذلك فالرّاكب إذا وطئت دابّته رجلاً فهو ضامن لما أصابت يدها أو رجلها أو رأسها أو صدمت؛ لأنّ هذه أفعال يمكن الاحتزاز عنها‏.‏ ولا يضمن ما نفحت برجلها أو ذنبها؛ لأنّه لا يمكن الاحتزاز عنه، ولو وقّفها في الطّريق فهو ضامن للنّفحة أيضاً؛ لأنّ المأذون فيه شرعاً هو المرور، وليس الوقوف إلاّ ما قاله بعض الحنابلة والمالكيّة من أنّ وقوف الدّابّة في الطّريق الواسع لغير شيء لا ضمان فيه‏.‏ ولو وقّفها أمام باب المسجد فهو كالطّريق، فيضمن ولو خصّص الإمام للمسلمين موقفاً فلا ضمان إلاّ إذا كان راكباً‏.‏ ولو كان سائراً أو سائقاً أو قائداً في مواضع أذن الإمام للنّاس فيها بالوقوف ضمن، لأنّ أثر الإذن في سقوط ضمان الوقوف، لا في السّير والسّوق، وهذا عند جميع الفقهاء‏.‏

47 - ومن حفر بئراً في طريق العامّة، فإن لم تكن لمصلحة ففيها الضّمان بما تلف منها، وإن كانت لمصلحة المسلمين، فوقع فيها إنسان ومات فإن كان الحفر بإذن السّلطان فلا ضمان، وإن كان بغير إذنه يضمن؛ لأنّ أمر العامّة إلى الإمام، فلا بدّ من إذنه، وهذا عند الشّافعيّة والحنابلة والحنفيّة عدا أبي يوسف فعنده لا يضمن؛ لأنّ ما كان من مصالح المسلمين كان الإذن فيه ثابتاً دلالةً، وهو أيضاً رأي للشّافعيّة، ولم يقيّد المالكيّة ذلك بالإذن‏.‏ ومن حفر في ملكه أو في موات فلا ضمان عليه اتّفاقاً‏.‏ ويرى أبو حنيفة أنّ الواقع في الحفر لو مات جوعاً أو غمّاً فلا ضمان على الحافر ويوافقه أبو يوسف في الموت جوعاً أمّا إن مات غمّاً فالضّمان على الحافر‏.‏

48 - ومن أخرج جناحاً إلى طريق المسلمين، أو نصب ميزاباً أو بنى دكّاناً أو وضع حجراً أو خشبةً أو قشر بطّيخ أو صبّ ماءً، فزلق به إنسان فما نشأ من ذلك فهو مضمون على فاعله، وهذا عند الحنابلة والحنفيّة والشّافعيّة‏.‏ وعند المالكيّة يضمن فيما وضعه في الطّريق، كقشر البطّيخ أو صبّ الماء، أمّا من وضع ميزاباً للمطر، ونصبه على الشّارع، ثمّ بعد مدّة سقط على رأس إنسان فقتله، أو على مال فأتلفه فلا ضمان، لأنّه فعل مأذون فيه‏.‏

49 - ومن بنى جداراً مائلاً إلى الشّارع فتلف به شيء ففيه الضّمان، وإن بناه مستوياً أو مائلاً إلى ملكه فسقط فلا ضمان، وإن مال قبل وقوعه إلى هواء الطّريق، أو إلى ملك إنسان فإن لم يمكن نقضه ولا فرّط في ترك نقضه لعجزه فلا ضمان، فإن أمكنه وطولب بذلك ولم يفعل ضمن، وإن لم يطالب لم يضمن‏.‏

أثر الإذن في دخول البيوت‏:‏

50 - لا يجوز لأحد دخول دار غيره بدون إذنه ولذلك وجب الاستئذان عند إرادة الدّخول لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيّها الّذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتّى تستأنسوا وتسلّموا على أهلها‏}‏، فإن أذن له دخل وإن لم يؤذن له رجع‏.‏ وللإذن في دخول البيوت أثر في حدّ السّرقة، إذ يعتبر الإذن بالدّخول شبهة دارئة للحدّ؛ لأنّ الدّار قد خرجت من أن تكون حرزاً بالإذن، ولأنّه لمّا أذن له بالدّخول فقد صار في حكم أهل الدّار، فإذا أخذ شيئاً فهو خائن لا سارق، إلاّ أنّ الفقهاء يختلفون في تحديد ما يعتبر سرقةً وما لا يعتبر، على تفصيل موطنه مصطلح ‏(‏سرقة‏)‏‏.‏

51

- وكذلك للإذن في دخول البيوت أثر في الجناية والضّمان، ومن ذلك من دخل دار غيره بإذنه فعقره كلبه، فعند الحنابلة والمالكيّة وفي القول الثّاني للشّافعيّة فيه الضّمان على صاحبه، لأنّه تسبّب في إتلافه بعدم كفّ الكلب عنه خلافاً للحنفيّة وقول للشّافعيّة‏.‏ وكذلك من حفر بئراً في داره، ودخل الدّار رجل بإذن صاحب الدّار، فوقع فيها، فلا ضمان على صاحب الدّار عند المالكيّة والحنفيّة، وعند الحنابلة والشّافعيّة إن كانت البئر مكشوفةً والدّاخل بصير يبصرها فلا ضمان، وإن كان الدّاخل أعمى، أو كانت البئر في ظلمة لا يبصرها، فعلى صاحب الدّار الضّمان عند الحنابلة، والأظهر عند الشّافعيّة، وفي القول الثّاني للشّافعيّة لا ضمان‏.‏ وللتّفصيل يرجع إلى مصطلح ‏(‏جناية‏)‏‏.‏

أثر الإذن في العقود‏:‏

52 - الأصل أنّ المأذون له في التّصرّفات ينفذ تصرّفه فيما له فيه نفع، كالصّبيّ المأذون عند من يجيز تصرّف الصّبيّ‏.‏ أمّا التّصرّفات الضّارّة فلا تصحّ ولو بالإذن، ولذلك لا يصحّ تبرّعه‏.‏ والصّبيّ المميّز المأذون له يملك ما يملكه البالغ لكن يشترط لصحّة الإذن أن يعقل أنّ البيع سالب للملك عن البائع، والشّراء جالب له، ويعرف الغبن اليسير من الفاحش‏.‏

53 - والإذن في العقود يفيد ثبوت ولاية التّصرّف الّذي تناوله الإذن، وذلك كالوكالة والشّركة والقراض ‏(‏المضاربة‏)‏، فإنّه بمقتضى هذه العقود يثبت لكلّ من الوكيل وعامل القراض والشّريك ولاية التّصرّف الّذي تناوله الإذن، كالوكالة في عقد البيع أو في عقد النّكاح وهكذا، ولا يجوز له مباشرة أيّ عقد يخالف نصّ الإذن‏.‏ وأمّا حقوق ما يباشرونه من عقود مأذون فيها فبالنّسبة للشّريك ترجع إليهما، وبالنّسبة لعامل المضاربة ترجع إلى ربّ المال‏.‏ أمّا بالنّسبة للوكيل فقد اختلف الفقهاء في ذلك‏:‏ فعند الحنابلة وهو الأصحّ عند الشّافعيّة تكون العهدة على الموكّل، ويرجع بالحقوق إليه، وكذلك الحكم عند المالكيّة بالنّسبة للوكيل الخاصّ‏.‏ أمّا الوكيل المفوّض عندهم فالطّلب عليه‏.‏ ويقول الحنفيّة‏:‏ كلّ عقد لا يحتاج فيه إلى إضافته إلى الموكّل، ويكتفي الوكيل فيه بالإضافة إلى نفسه فحقوقه راجعة إلى العاقد، كالبياعات والأشرية والإجارات، فحقوق هذه العقود ترجع للوكيل وهي عليه أيضاً، ويكون الوكيل في هذه الحقوق كالمالك والمالك كالأجنبيّ، حتّى لا يملك الموكّل مطالبة المشتري من الوكيل بالثّمن، وإذا استحقّ المبيع في يد المشتري يرجع بالثّمن على الوكيل‏.‏ وكلّ عقد يحتاج فيه الوكيل إلى إضافته إلى الموكّل فحقوقه ترجع إلى الموكّل، كالنّكاح والطّلاق والعتاق على مال والخلع، فحقوق هذه العقود تكون للموكّل وهي عليه أيضاً، والوكيل فيها سفير ومعبّر محض، حتّى إنّ وكيل الزّوج في النّكاح لا يطالب بالمهر وإنّما يطالب به الزّوج إلاّ إذا ضمن المهر فحينئذ يطالب به لكلّ بحكم الضّمان‏.‏

54 - وقد يقوم إذن الشّارع مقام إذن المالك فيصحّ العقد وإن لم يأذن المالك، وذلك كمن توجّه عليه دين وامتنع من الوفاء والبيع، فإن شاء القاضي باع ماله بغير إذنه لوفاء دينه، وإن شاء عزّره وحبسه إلى أن يبيعه‏.‏

55 - أمّا التّصرّف في مال الغير بدون إذنه، وذلك كالفضوليّ يبيع مال غيره بغير إذنه فإنّه يتوقّف على الإجازة عند غير الشّافعيّة، والإجازة اللاّحقة كالوكالة السّابقة، والوكالة إذن، وعند الشّافعيّة وفي رأي للحنابلة البيع باطل‏.‏

56 - وإذن المالك في العقود الّتي يباشرها بنفسه قد يفيد تمليك العين، سواء أكان على سبيل البدل كما في القرض، أم بدون عوض كما في الهبة والوصيّة بالعين‏.‏ وقد يفيد تمليك المنفعة أو الانتفاع كالإجارة والإعارة أو تمليك الانتفاع بالبضع كما في عقد النّكاح وقد سبق بيان ذلك‏.‏

أثر الإذن في الاستهلاك

57 - الإذن قد يرد على استهلاك رقبة الشّيء ومنافعه، وهو من الشّارع يفيد التّملّك بالاستيلاء الحقيقيّ، وذلك كالإذن بصيد البحر وصيد البرّ في غير الحرم، ومن ذلك الماء والكلأ والنّار وهي المشتركات الثّلاث الّتي نصّ عليها الحديث‏:‏ «المسلمون شركاء في ثلاث، في الماء والكلأ والنّار»‏.‏ أمّا الإذن بالاستهلاك من العباد بعضهم لبعض فإنّه يختلف أثره‏.‏ فقد يفيد التّمليك على سبيل العوض كما في قرض الخبز والدّراهم والدّنانير‏.‏ وقد يفيد الإذن التّمليك من غير عوض كما في هبة المأكول والمشروب والدّراهم والدّنانير‏.‏ وقد لا يكون الإذن بالاستهلاك تمليكاً، وإنّما يكون طريقاً إليه، وذلك كما في الولائم والمنائح والضّيافات‏.‏

أثر الإذن في الجنايات

58 - الأصل أنّ الدّماء لا تجري فيها الإباحة، ولا تستباح بالإذن وإنّما يكون الإذن - إذا كان معتبراً - شبهةً تسقط القصاص، ومن ذلك من قال لغيره‏:‏ اقتلني فقتله، فإنّ القود يسقط لشبهة الإذن، وذلك عند الحنفيّة والحنابلة والشّافعيّة في الأظهر، وهو قول للمالكيّة، وفي قول آخر للمالكيّة أنّه يقتل وفي قول ثالث أنّه يضرب مائةً ويحبس عاماً‏.‏ واختلف في وجوب الدّية، فتجب عند الحنفيّة وهو قول للمالكيّة والشّافعيّة‏.‏ وكذلك من قال لغيره‏:‏ اقطع يديّ فقطع يده فلا ضمان فيه، وذلك عند الحنفيّة والحنابلة، وهو الأظهر عند الشّافعيّة، ورجّحه البلقينيّ، وقال المالكيّة أيضاً‏:‏ يعاقب ولا قصاص عليه، وتنظر التّفصيلات في مصطلح‏:‏ ‏(‏جناية‏)‏‏.‏

59 - ومن أمر إنساناً بقتل غيره فإن كان بلا إكراه ففيه القصاص على المأمور واختلف في الآمر‏.‏ أمّا إذا كان الأمر بإكراه ملجئ فإنّ القصاص على الآمر، واختلف في المأمور، فعند الحنابلة والمالكيّة وهو الصّحيح عند الشّافعيّة وقول زفر من الحنفيّة، أنّه يقتل لمباشرته القتل، وقال أبو يوسف‏:‏ لا قصاص على واحد منهما، والمذهب أنّ المأمور لا يقتل‏.‏ وفي الموضوع تفصيلات كثيرة ‏(‏ر‏:‏ إكراه - قتل - جناية‏)‏‏.‏

60 - ولا قصاص على من قتل غيره دفاعاً عن نفسه أو عرضه أو ماله؛ لأنّ الدّفاع عن ذلك مأذون فيه لكن ذلك مشروط بما إذا كان الدّفع لا يتأتّى إلاّ بالقتل‏.‏

أثر الإذن في الانتفاع

61 - الانتفاع إذا كان بإذن من الشّارع فإنّه قد يفيد التّمليك بالاستيلاء الحقيقيّ كما في تملّك الحيوان المباح بالصّيد، وكما في تملّك الأرض الموات بالإحياء‏.‏ وقد يفيد اختصاصاً لمن سبق، كالسّبق إلى مقاعد المساجد للصّلاة والاعتكاف، والسّبق إلى المدارس والرّبط ومقاعد الأسواق‏.‏ وقد يفيد ثبوت حقّ الانتفاع المجرّد، كالانتفاع بالطّريق العامّ والمسيل العامّ، والانتفاع بذلك مشروط بسلامة العاقبة‏.‏

62 - وإذا كان الانتفاع بإذن من العباد بعضهم لبعض، فإن كان الإذن بدون عقد كإذن صاحب الطّريق الخاصّ والمجرى الخاصّ لغيره بالانتفاع فإنّه لا يفيد تمليكاً، وإنّما يترتّب عليه الضّمان بسوء الاستعمال‏.‏

63 - أمّا إذا كان منشأ الانتفاع عن عقد كالإجارة والإعارة، فإنّ الفقهاء يتّفقون على أنّ عقد الإجارة يفيد ملك المنفعة، فيكون للمستأجر أن يستوفي المنفعة بنفسه، ويكون له أن يؤجّر فيملك المنفعة لغيره‏.‏ أمّا عقد الإعارة فإنّهم يختلفون في إفادته ملك المنفعة‏.‏ فعند الحنابلة والشّافعيّة على الصّحيح لا تفيد ذلك إلاّ بإذن من المالك، وعلى ذلك فلا يجوز للمستعير أن يعير غيره وإنّما يستوفي المنفعة بنفسه، وعند الحنفيّة والمالكيّة تفيد الإعارة ملك المنفعة فيجوز للمستعير أن يعير غيره‏.‏

64 - ويترتّب الضّمان على الانتفاع النّاشئ عن مثل هذه العقود بمجاوزة الانتفاع المأذون فيه أو بالتّفريط‏.‏ على تفصيل في ذلك، يرجع إليه في مصطلح‏:‏ ‏(‏ضمان‏)‏‏.‏

انتهاء الإذن

65 - الإذن إذا كان من الشّارع فليس فيه إنهاء له ولا يتصوّر ذلك؛ لأنّ إذن الشّارع في الأموال المباحة يفيد تملّكها ملكيّةً مستقرّةً بالاستيلاء‏.‏ أمّا إذن العباد بعضهم لبعض، فإن كان إذناً بالانتفاع، وكان منشأ الانتفاع عقداً لازماً كالإجارة فإنّه ينتهي بانتهاء المدّة، أو بانتهاء العمل وفق الإذن الصّادر له ومدّة قيام الإذن‏.‏ وإن كان منشأ الانتفاع عقداً جائزاً كالإعارة فإنّ الإذن ينتهي برجوع المعير في أيّ وقت شاء سواء أكانت العاريّة مطلقةً أم مؤقّتةً؛ لأنّها إباحة، وهذا عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة، إلاّ أنّ الحنفيّة يقولون‏:‏ إن كانت الإعارة مؤقّتةً وفي الأرض غرس أو بناء فلا يجوز رجوعه قبل الوقت‏.‏ ويقول الحنابلة والشّافعيّة‏:‏ إن أعاره أرضاً للزّراعة فعليه الإبقاء إلى الحصاد‏.‏ وإن أعاره أرضاً ليدفن فيها فلا يرجع حتّى يندرس أثر المدفون، أمّا المالكيّة فعندهم لا يجوز الرّجوع في العاريّة المؤقّتة قبل انتهاء وقتها، وإن كانت مطلقةً لزمه أن يتركه مدّةً معتادةً ينتفع بها في مثلها‏.‏ وإن كان إذناً بالتّصرّف كالوكالة والشّركة والمضاربة فإنّ الإذن ينتهي بالعزل، لكن بشرط أن يعلم المأذون بذلك، وأن لا يتعلّق بالوكالة حقّ للغير‏.‏ وينتهي الإذن كذلك بالموت، وبالجنون المطبق وبالحجر على الموكّل، وبهلاك ما وكّل فيه، وبتصرّف الموكّل بنفسه فيما وكّل فيه، وباللّحاق بدار الحرب مرتدّاً‏.‏ ومثل ذلك ناظر الوقف والوصيّ فإنّهما ينعزلان بالرّجوع وبالخيانة وبالعجز‏.‏

الموسوعة الفقهية / نهاية الجزء الثاني